سورة النمل - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


ثم قالت: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} والهدية هي: العطية على طريق الملاطفة. وذلك أن بلقيس كانت امرأة لبيبة قد سيست وساست، فقالت للملأ من قومها: إني مرسلة إليهم، أي: إلى سليمان وقومه، بهدية أُصانِعُه بها عن ملكي وأختبره بها أَمِلكٌ هو أم نبي؟ فإن يكن ملكًا قبل الهدية وانصرف، وإن كان نبيًا لم يقبل الهدية ولم يُرْضِه منّا إلا أن نتبعه على دينه، فذلك قوله تعالى: {فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} فأهدت إليه وصفاء ووصائف، قال ابن عباس ألبستهم لباسًا واحدًا كي لا يُعْرف ذكر من أنثى. وقال مجاهد: ألبس الغلمان لباس الجواري وألبس الجواري لباس الغلمان. واختلفوا في عددهم، فقال ابن عباس: مائة وصيف ومائة وصيفة وقال مجاهد: ومقاتل مائتا غلام ومائتا جارية.
وقال قتادة، وسعيد بن جبير: أرسلت إليه بلبنة من ذهب في حرير وديباج. وقال ثابت البناني: أهدت إليه صفائح من الذهب في أوعية الديباج. وقيل: كانت أربع لبنات من ذهب. وقال وهب وغيره: عمدت بلقيس إلى خمسمائة غلام وخمسمائة جارية، فألبست الغلمان لباس الجواري، وجعلت في سواعدهم أساور من ذهب، وفي أعناقهم أطواقا من ذهب وفي آذانهم أقراطا وشنوفا مرصعات بأنواع الجواهر، وألبست الجواري لباس الغلمان؛ الأقبية والمناطق، وحملت الجواري على خمسمائة رمكة والغلمان على خمسمائة برذون، على كل فرس لجام من ذهب مرصع بالجواهر وغواشيها من الديباج الملون، وبعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب وخمسمائة لبنة من فضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع، وأرسلت إليه المسك والعنبر والعود الألنجوج، وعمدت إلى حقه فجعلت فيها درة ثمينة غير مثقوبة وخرزة جزعية مثقوبة معوجة الثقب، ودعت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه، رجالا من قومها أصحاب رأي وعقل، وكتبت معه كتابًا بنسْخة الهدية، وقالت فيه: إن كنتَ نبيًا فميِّزْ بين الوصائف والوصفاء، وأخبر بما في الحقة قبل أن تفتحها، واثقب الدر ثقبًا مستويًا، وأدخل خيطًا في الخرزة المثقوبة من غير علاج إنس ولا جنّ. وأمرت بلقيس الغلمان، فقالت: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام تأنيث وتخنيث يشبه كلام النساء، وأمرت الجواري أن يكلمنه بكلام فيه غلظة يشبه كلام الرجال.
ثم قالت للرسول: انظر إلى الرجل إذا دخلت عليه فإن نظر إليك نظر غضب فاعلم أنه ملك ولا يهولنك منظره، فإنّا أعزّ منه، وإن رأيت الرجل بشاشًا لطيفًا فاعلم أنه نبي مرسل فتفهَّم قوله، ورد الجواب. فانطلق الرسول بالهدايا، وأقبل الهدهد مسرعًا إلى سليمان فأخبره الخبر كله، فأمر سليمان الجنَّ أن يضربوا لبنات الذهب ولبنات الفضة ففعلوا، ثم أمرهم أن يبسطوا من موضعه الذي هو فيه إلى تسعة فراسخ ميدانًا واحدًا بلبنات الذهب والفضة، وأن يجعلوا حول الميدان حائطًا، شُرفها من الذهب والفضة، ثم قال: أي الدوابِّ أحسن مما رأيتم في البر والبحر؟ قالوا: يا نبي الله إنا رأينا دوابًا في بحر كذا وكذا منطقة مختلفة ألوانها لها أجنحة وأعراف ونواصٍ، فقال: عليّ بها الساعة، فأتوا بها، فقال: شدُّوها عن يمين الميدان وعن يساره على لبنات الذهب والفضة، وألقُوا لها علوفَتها فيها، ثم قال للجن: عليّ بأولادكم، فاجتمع خلق كثير، فأقامهم على يمين الميدان ويساره، ثم قعد سليمان في مجلسه على سريره، ووضع له أربعة آلاف كرسي عن يمينه ومثلها عن يساره، وأمر الشياطين أن يصطفوا صفوفًا فراسخ، وأمر الإنس فاصطفوا فراسخ وأمر الوحوش والسباع والهوام والطير، فاصطفوا فراسخ عن يمينه وعن يساره. فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم مثلها تروث على لِبَنِ الذهب والفضة، تقاصرت أنفسهم ورموا بما معهم من الهدايا، وفي بعض الروايات أن سليمان لما أمر بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعًا على قدر موضع اللبنات التي معهم، فلما رأى الرسل موضع اللبنات خاليًا وكل الأرض مفروشة خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين نظروا إلى منظر عجيب، ففزعوا، فقالت لهم الشياطين: جُوزوا فلا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والإنس والطير والهوام والسباع والوحوش، حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرًا حسنًا بوجه طلق، وقال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤوا له، وأعطاه كتاب الملكة، فنظر فيه، ثم قال: أين الحقة؟ فأتى بها فحركها، وجاء جبريل فأخبره بما في الحقة، فقال: إن فيها درة ثمينة غير مثقوبة، وجزعة مثقوبة معوجة الثقب، فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة، فقال سليمان: من لي بثقبها فسأل سليمان الإنس ثم الجن، فلم يكن عندهم علم ذلك، ثم سأل الشياطين، فقالوا: نرسل إلى الأرضة فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها فدخلت فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تصيّر رزقي في الشجرة، فقال لك ذلك.
وروي أنه جاءت دودة تكون في الصفصاف فقالت: أنا أدخل الخيط في الثقب على أن يكون رزقي في الصفصاف، فجعل لها ذلك، فأخذت الخيط بفيها ودخلت الثقب وخرجت من الجانب الآخر. ثم قال: من لهذه الخرزة فيسلكها في الخيط؟ فقالت دودة بيضاء أنا لها يا رسول الله فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال سليمان: ما حاجتك؟ فقالت: تجعل رزقي في الفواكه، قال: لك ذلك، ثم ميز بين الجواري والغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم، فجعلت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها ثم تجعله على اليد الأخرى ثم تضرب به الوجه، والغلام كما يأخذه من الآنية يضرب به وجهه، وكانت الجارية تصب الماء على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، وكانت الجارية تصب الماء صبا وكان الغلام يحدر الماء على يديه حدرًا، فميّز بينهم بذلك، ثم ردّ سليمان الهدية، كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ}.


{فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِي بِمَالٍ} قرأ حمزة، ويعقوب: {أتمدوني} بنون واحدة مشددة وإثبات الياء، وقرأ الآخرون: بنونين خفيفين، ويثبت الياء أهل الحجاز والبصرة، والآخرون يحذفونها، {فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ} أعطاني الله من النبوة والدين والحكمة والملك، {خَيْرٌ} أفضل، {مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ} لأنكم أهل مفاخرة في الدنيا ومكاثرة بها، تفرحون بإهداء بعضكم لبعض، فأما أنا فلا أفرح بها، وليست الدنيا من حاجتي، لأن الله تعالى قد مكنني فيها وأعطاني منها ما لم يعط أحدا، ومع ذلك أكرمني بالدين والنبوة، ثم قال للمنذر بن عمرو وأمير الوفد: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ}.


{ارْجِعْ إِلَيْهِمْ} بالهدية، {فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ} لا طاقة لهم، {بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا} أي: من أرضهم وبلادهم وهي سبأ، {أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} ذليلون إن لم يأتوني مسلمين. قال وهب وغيره من أهل الكتب: فلما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان، قالت: قد عرفت- والله- ما هذا بملك وما لنا به طاقة، فبعثت إلى سليمان إني قادمة عليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في بعض في آخر قصر من سبعة قصور لها، ثم أغلقت دونه الأبواب، ووكلت به حراسًا يحفظونه، ثم قالت لمن خلفت على سلطانها: احتفظ بما قِبَلِك وسرير ملكي، لا يخلص إليه أحد ولا يرينَّه حتى آتيك، ثم أمرت مناديا ينادي في أهل مملكتها يؤذنهم بالرحيل، وشخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف قيل من ملوك اليمن، تحت يدي كل قيل ألوف كثيرة. قال ابن عباس: وكان سليمان رجلا مهيبا لا يبتدأ بشيء حتى يكون هو الذي يسأل عنه، فخرج يوما فجلس على سرير ملكه، فرأى رهجا قريبا منه، فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس وقد نزلت منا بهذا المكان، وكان على مسيرة فرسخ من سليمان، قال ابن عباس: وكان بين الكوفة والحيرة قدر فرسخ، فأقبل سليمان حينئذ على جنوده. {قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي: مؤمنين، وقال ابن عباس: طائعين. واختلفوا في السبب الذي لأجله أمر سليمان بإحضار عرشها، فقال أكثرهم: لأن سليمان علم أنها إن أسلمت يحرم عليه مالها، فأراد أن يأخذ سريرها قبل أن يحرم عليه أخذه بإسلامها. وقيل: ليريها قدرة الله عز وجل وعظم سلطانه في معجزة يأتي بها في عرشها.
وقال قتادة: لأنه أعجبته صفته لما وصفه الهدهد، فأحب أن يراه. قال ابن زيد: أراد أن يأمر بتنكيره وتغييره ليختبر بذلك عقلها.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9